مؤسسة عين السلطان للدراسات

هل بحثت يوما عن الإنسانية بروحها وجسدها وضميرها ووجدانها ومعانيها الحقيقية والشاملة؟ ما عليك إلا أن تفتح الشاشة لتجدها أمام ناظريك: إنها غزة، غزة الصامدة رغم الجراح، الشامخة رغم الخراب، الثابتة رغم الدمار، المتماسكة رغم المجازر، القوية رغم الصعاب، المنتفضة من تحت الركام. إنها الإنسانية كلها، وشعبها هو روح الإنسانية الذي ينبض بالحياة والنشاط والعزة والكرامة. شعب عزيز صابر كأيوب، قاهر للظلم، منتصر للحق، متأقلم مع الويلات، متكافل متكاتف عند المآسي، محب للحياة في غمرة الموت والقتل.
شعب غزة هو روح الإنسانية الذي أيقظ شعوب العالم من سباتها وغفلتها، وهو ضميرها الذي هز ضمائر الأحرار في العالم، وهو وجدانها الذي حرّك وجدان أهل الإنسانية جميعا على اختلاف أعراقهم وأديانهم وثقافاتهم، ووحدهم ضد التوحش والهمجية والمجازر والقتل والإبادة والعقاب الجماعي ومحاولات التهجير وضد كل ما هو مخالف للطبيعة البشرية وللشرائع والقوانين.

بين ثقافة الحياة وثقافة الموت

من بين مشاهد القتل والدماء والمجازر سنتناول المشهد من بعض زواياه في الصمود الأسطوري لأهل غزة أمام آلة القتل الإسرائيلية، وتمسكهم بالأرض وإصرارهم على البقاء يؤكد أن الجذور الاصيلة لا يمكن أن تُجتث أو تُقتل أو تموت، وإنما هي روح في جسد، روح متجذرة في جسد الأرض وبَدَن التاريخ وجسم الجغرافيا، يستحيل اقتلاعها أو اخراجها.
قضية أهل غزة وقضية أهل فلسطين هي جسد داخل روح، وليس فقط روح في جسد، فحتى لو تم انتزاع هذا الجسد من خلال الاحتلال والتدمير والاستيطان والاستيلاء على الأراضي وقطع أشجار الزيتون وهدم البيوت وتزوير التاريخ والسطو على الآثار وسرقة الثقافة والاعتداء على المقدسات، ستبقى روحه خضراء تنبض بالحياة، والعزيمة والثبات.
لم تترك آلة الحرب والدمار الإسرائيلية شيئا في طريقها إلا وعاثت فيه دمارا وفسادا، من مستشفيات ومدارس ومساجد وكنائس وجامعات وأبراج ومبان سكنية ومراكز نازحين وأجهزة توليد الطاقة وخزانات مياه وسيارات إسعاف، وحصار شمل كل شيئ وقطع كل شيء إلا الهواء والكرامة لأن الهواء خارج عن قدرة المعتدي والكرامة خارجة عن ثقافته.
غير أن ثقافة الحياة في غزة ظلت هي الأقوى، ثقافة جعلت من كل فرد من أهل غزة مشروع تضحية من أجل البقاء في الأرض ومن أجل حياة الآخرين، متسلحين بالصبر والإيمان، مؤمنين بعدالة قضيتهم، ثقافة جعلت كل الطواقم والموظفين والمتطوعين يعملون تحت وابل القصف والقذائف، كل واحد منهم يترقب قذيفة قد تأتيه في أي لحظة وبدون سابق إنذار أو استئذان، ففي لحظة توحش قد يصبح الطبيب جريحا أو قتيلا، وقد يتحول الجريح الى مسعف لطبيبه، وقد يصاب الإعلامي ويصبح المواطن إعلاميا يصوّر جراحه، فهل هناك تضحية وشجاعة أعظم من ذلك؟
إعلام يرى بعين واحدة حيث كمية الكذب والفبركات الإعلامية التي شاهدناها في بعض وسائل الإعلام العالمية وخاصة الغربية منها في تغطيتها لعدوان غزة تؤكد لنا أن الإعلامي يفقد هويته الحقيقية عندما يتخلى عن الضمير وعن الصدق والموضوعية والمهنية والأمانة، ويتحول الى مقاتل مشارك في الجريمة، والى شاهد زور يساعد في إخفاء الجريمة أو تحسين صورتها، فيتحول القلم في يديه الى عصا والميكروفون الى فوهة بندقية والشاشة الى شاهد زور والأستوديو الى مصنع للكذب من أجل الكذب، لأن القلم تحركه الأصابع، والأصابع تحركها العقول والضمائر، والعقول والضمائر هما ما يميز الانسان عن باقي المخلوقات.
إعلام المهنية والضمير الذي يعلم معنى الإنسانية والمهنية والصدق والشهامة من مدرسة الإعلامي وائل الدحدوح الذي فقد زوجته وأطفاله في القصف الإسرائيلي لكنه لم يستسلم للعدوان ولا للحزن، ، بل زاده المصاب إصرارا على الاستمرار في نقل الحقيقة، وإكمال المهنة، ليقدم للبشرية أجمل نموذج في التضحية والشجاعة والصبر والإخلاص.
قادة الكذب والفبركات والاعتماد على السرديات المصطنعة والنظر بعين واحدة هكذا هم بعض قادة الغرب المتغنون بالإنسانية وقيمها، الذي يعملون على تحسين صورة الشر وتزيين وجه المجرم من خلال زخرفات من القول، مليئة بالغطرسة والغرور والعنجهية والوقاحة والتحدي، وصلت الى حد المباركة والمشاركة في الجريمة، متناسين أو متجاهلين أن الأقنعة المزخرفة ومساحيق التجميل والترقيع التي يستخدمونها لن تزيد وجه القاتل إلا بشاعة وقبحا كقبح مواقفهم بل أشد، ولن يستطيع أحمر على شفاه وحش أن يحجب الدماء عن أنيابه.
المشاهد المروعة لأشلاء الأطفال ومشاهد حرب الإبادة كانت كفيلة بإحداث هزة عالمية أساسها الضمير وعمادها الوعي، انعكست على شكل احتجاجات ومظاهرات في مختلف أنحاء العالم، حركها الغضب الرافض للظلم وللكذب ولسردية أصحاب السلطة والقوة والنفوذ والقرار والمال والمصالح في بلدانهم، وقد عبرت ناشطة بريطانية متضامنة مع أهل غزة عن طبيعة هذا الحراك العالمي خير تعبير عندما حددت له هويته الإنسانية وبالتالي جردت من يقفون ضده من الإنسانية، عندما قالت: “إنني أتضامن مع الشعب الفلسطيني لأنني انسان”! كلمات قليلة بسيطة لكنها ثقيلة في ميزان القيم والأخلاق، ومؤثرة في ضمائر الأحرار.

بين الدولة والغابة

أما عندما تملك السلاح وتفقد الضمير، وتملك النفوذ وتفتقر للإنسانية، وتملك القوة وتكره العدل، وتملك القرار وتعشق الظلم، وتملك المال وتمارس الفجور، وتملك الإعلام وتزاول النفاق، وتملك الغذاء وتعاني من الفراغ الأخلاقي فعند ذلك تتحول الدول الى غابات، وأصحاب القرار الى وحوش، والأبرياء الى ضحايا، والمدن الى أطلال، والقتل الى لذة، والدماء الى انهار، والتدمير الى تشف، ويصبح قصف المستشفيات متعة، وضرب المساجد والكنائس رغبة، واستهداف المدارس شهية، وقتل الاطفال نزعة وهوى.
وستتشابه المعاني بين عالم متحضر وعالم يحتضر، وستتسع مساحة القبور وتنقص مساحة الحضارة والعمران، وتمحى مساحة الأخلاق، وتضيق المساحة بين الوحوش والبشر!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *